أسس الجهاد
أسس الجهاد
أعتبر الإسلام الجهاد سلوكاً أساسياً في حياة المسلم، سواء أكان جهاداً للنفس أو كان جهاداً للعدو، وإن كان الثاني هو المصداق التطبيقي الأصعب، ويأتي بعد نجاح الإنسان في مدافعة شهواته ورغباته ليتشكل عنده الاستعداد العملي لمدافعة الظالمين والمحتلين. فجهاد النفس هو الأكبر، لأنه يومي ودائم وفي كل صراع بين الخير والشر، بين طاعة الله وهوى النفس، أما جهاد العدو وقتاله فهو الأصغر، لأنه في محطات محددة من تاريخ الإنسان كجزء من نصرة المبادئ والقيم والحق ونصرة الأمة، عندما تتعرض الأمة للعدوان أو الاحتلال أو الإذلال.
وقد بنى الإسلام الجهاد على أسس هادفة أبرزها:
- الابتلاء: الحياة الدنيا مبنية على الابتلاءات والاختبارات المستمرة، فلا يمر يوم أو زمن إلا ويواجه الإنسان فيه المصاعب مع نفسه أو مجتمعه أو جهة ما في هذا العالم. وبدل أن نتساءل عن سبب هذه الابتلاءات، التي تشكل جزءاً من خلقنا في الحياة ولا إرادة لنا فيها، فلنعمل على استخدام قدرتنا التي أودعها الله تعالى فينا، بالانتصار على الذات وعلى الأعداء من خلال المجاهدة، ولنكن صابرين محتملين لأن النتائج تستحق ذلك. قال تعالى:( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)، وقال أيضاً :(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)
- سبيل الله: الجهاد في سبيل الله هو الهدف، فمن ترك المعاصي للطاعة في سبيل الله، ومن قاتل لإعلاء كلمة الله وتنفيذ أوامره فهو في سبيل الله. لكن من استسلم للمعاصي فهو في سبيل هواه، ومن قاتل من أجل راتب يقبضه فهو في سبيل ذاته، ومن قاتل من أجل عصبية فهو في سبيل عصبيته، فالدافع أساس لتحديد الهدف. ولم نؤمر بالجهاد كيفما كان، ولم نؤمر بالجهاد من أجل أن نعاني، وإنما أمرنا به لنكون في خط الله مقتدين بتعاليمه.
ولا يعني هذا أن الله بحاجة إلينا لنجاهد في سبيله، فبإمكانه أن يستبدلنا ويأتي بآخرين ولانضره شيئاً، ولكنه يريد لنا الاستقامة، وهذا فضل منه علينا وإذا قبلنا واختارنا في مسيرة الإيمان. إن سبيل الله تعبير عن تحديد الاختبار الانساني في مقابل الخيارات الأخرى. قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله …)
إن التصميم على الاختيار الصالح يتطلب جرأة وشجاعة، ولايمكن الركون إلى مثبطي الهمم والعزائم الذين يحملون مناهج أخرى، وتكمن العبرة في بذل أقصى الوسع بثقة واطمئنان مهما فعل الائمون، قال أمير المؤمنين علي (ع): جاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذك في الله لومة لائم.
- مصلحة الإنسان: إذا جاهدت عدوك وطرته من أرضك فلمصلحتك، وإذا جاهدت شيطانك فمنعته من التأثير عليك فلمصلحتك، وإذا جاهدت الشر فاسقطته وعم الخير بين الناس فلمصلحتك، وإذا جاهدت نفسك فتهذبت وأصبحت سليم السريرة ومرتاح البال فلمصلحتك.
قال تعالى:(ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ..)
وقال تعالى:(من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ..)
إن الجهاد معاناة مثمرة لمصلحة الإنسان، بينما اتباع الهوى والمعاصي والمنكرات معاناة مضرة في نتائجها على مستوى الفرد وعلى مستوى الناس. ولايكون الحكم على الأشياء باستعجال اللحظة الحاضرة، بل بخواتيم الأعمال. فاللذة في لحظتها مغرية وجذابة لكنها مدمرة في نتائجها وتبعاتها، والتسلط في لحظته مغر ومفرح لكنه مؤلم في آثاره الاجتماعية وتداعياته المستقبلية.
- الهداية: فالجهاد سلوك نستشرف بعض نتائجه، التي نراها أكثر عند إحصاء النتائج. فهو يفتح أبواب التوفيق والهداية أمام المؤمن على مصاريعها، ولايتقيد بالحسابات البشرية المحدودة، فالإنسان عاجز عن فهم أسرار الكون وعالم الغيب وما قدره الله تعالى في الحياة. قال تعالى:( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا..)
إن الجهاد باب للحياة وليس باباً للموت، فالاستقامة حياة، والعزة حياة، وتحرير الأرض حياة، والانتصار على الذات حياة، بل الشهادة حياة الفرد في فوزه بالجنة بعد شهادته، وحياة الأمة في تأثير دماء شهدائها بانتصارها وعزتها. وهذا كله يفتح طرق الهداية إلى الخير والفلاح في حياة الفرد وفي حياة البشرية.
وبما أن الجهاد العسكري الذي يتمثل بقتال العدو يرتبط بهذا الموضوع، فسنركز بحثنا عليه.
يقسم الفقهاء الجهاد إلى قسمين:
- الجهاد الابتدائي: وهو أن يبدأ المسلمون مواجهة الآخرين والدخول إلى أراضيهم لاعتبارات ليس لها علاقة باسترداد أرض أو التصدي لعدوان، فهذا مرتبط بالنبي (ص) أو الإمام المعصوم، ولا يعتبر مطروحاً في زماننا مع غياب الأمام المهدي (عج)
- الجهاد الدفاعي: وهو أن يدافع المسلمون عن الأرض والشعب وعن أنفسهم عندما يتعرضون لاعتداء أو احتلال، وهذا أمر مشروع بل واجب، يقول الإمام الخميني (قدس): (لو غشي بلاد المسلمين أو ثغورها عدو يخشى منه على بيضة الإسلام ومجتمعهم، يجب عليهم الدفاع بأي وسيلة ممكنة من بذل الأموال والنفوس)
لكن قرار الجهاد مرتبط بالولي الفقيه، الذي يشخص الحالة التي ينطبق عليها عنوان الجهاد الدفاعي، والذي يحدد قواعد المواجهة وضوابطها، فمسؤولية الدماء عظيمة، ولا يمكن زج المقاتلين في أي معركة من دون الاستناد إلى ماينسجم مع وجوب الجهاد فيها وما يحقق أهدافها.
وقد يختلف رأي بعض الفقهاء عن رأي الولي الفقيه، لكن رأيه ملزم لهم، فهو المتصدي والمبايع من قبل الناس، ويترتب على مثل هذه المنعطفات نتائج خطيرة، فلا يمكن المراهنة على إجماع الآراء، مع احتمال الخلاف دائماً، وبما أنها صلاحيته، فالقرار يعود إليه وهو ملزم للمسلمين.
وعند سؤال أحدهم للإمام الخميني(حفظه الله) بقوله: إذا كنت مقلداً لأحد المراجع، وأعلن ولي أمر المسلمين الحرب ضد الكفرة الظالمين أو الجهاد، ولم يجوز لي المرجع الذي أقلده الدخول في الحرب، فهل ألتزم برأيه أم لا؟
أجاب:( يجب إطاعة أوامر ولي أمر االمسلمين في الامور العامة التي منها الدفاع عن الإسلام والسلمين ضد الكفرة والطغاة المهاجمين). وهو رأي الفقهاء الأعلام.
قد يؤدي قرار الجهاد إلى صد العدوان والتحرير، وقد لايؤدي إلى هذه النتيجة في المدى المنظور، فهل يتوقف الأمر بالجهاد على الانتصار الحتمي والمضمون؟ وهل يرتبط بحدود معينة للتضحيات؟
لا شك بأن ضمانة الانتصار ترضي الجميع، ولا تثير أسئلة كثيرة حول جدوى الجهاد. لكن تفاوت موازين القوى المادية، واحتمالات التضحيات الكثيرة، وغموض أفق النتائج السريعة والمباشرة، يصير نقاشاً في الجدوى. هنا يعود التقدير للولي الفقيه، الذي يستند إلى الظروف الموضوعية، وتقدير المصلحة من المفسدة، ليتخذ قراره.
فقد يكون الجهاد مطلوباً للتأكيد على الحق والتأسيس له، من دون توخي النتائج العملية المباشرة، ليكون عملاً استنهاضياً لتحريك الأمة واستخراج عوامل القوة الكامنة فيها وتشجيعها لتثق بإمكاناتها وتوفيق الله تعالى لها، وقد يكون عملاً طويل المدى تتفاوت فيه التضحيات وتتراكم من مرحلة إلى أخرى ليصل إلى النصر.
هذا لا يعني أن الإمكانات والظروف لاتدخل في حساب القرار، فهي دخيلة في حدوده وضوابطه، لكننا لانملك كامل الصورة والتقديرات، لذا لايمكن تقييم قرار الولي الفقيه من منطلق وحدود معطياتنا وتحليلنا، فقد يشرح للأمة كل المعطيات والخطوات التي أملت قراره، أو يعرفها على البعض منها، أو يظهر أموراً ويخفي أخرى كجزء من أسلحة المعركة مع العدو.
إن الجهاد مبني على التضحية بالمال والنفس، ويجب توفير الوسائل الممكنة والمناسبة له، فالذهاب إلى المعركة ليس عشوائياً، والرغبة بالشهادة لا تشرع الاستهتار بتوفير مقومات المعركة، إلا أن سقوط الدماء وحصول الجرح والأسر من طبيعة العمل الدفاعي، وهو ليس رمياً للنفس في التهلكة، فنتائج الجهاد لاتتحقق إلا بعطاءات الشهداء والأسرى والجرحى، لأن اعتداءات العدو مبنية على الإيلام للتيئيس والإخافة وفرض الإستسلام، أما الجهاد فهو دفاع لإسقاط أهداف العدو مع دفع الأثمان اللازمة مهما بلغت، طالما أن الإدارة أمينة ومسؤولة، والهدف واضح وشرعي.