الصدق والشهادة
قال الله تعالى : { قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
يتضمن الصدق بمعناه الواسع ثلاث أنواع رئيسية ، وهي :
الصدق في الخبر : وفيه يكون الإنسان صدقا إذا طابق خبره الواقع .
الصدق في العقيدة : وفيه يكون الإنسان صادقا في حالتين ، وهما :
الحالة الأولى : إذا كان الإنسان متجردا للحقيقة وباحثا عنها بجد ومثابرة وإخلاص ، وباذلا كل ما لديه من الوسع والطاقة من أجل تحصيلها ، وكانت عقيدته صحيحة ( أي مطابقة للواقع ) وهذا يحتاج إلى أن يكون الإنسان ناقدا وبعيدا عن التبرير ومقاوما لكل عوامل التأثير السلبي في التفكير والبحث عن الحقيقة .
الحالة الثانية : إذا عمل بمقتضى ما يعتقده بعيدا عن النفاق والرياء والسمعة ، فتكون أقواله وأفعاله ترجمة دقيقة لأفكاره وعقيدته ، وتتسم بالصراحة والوضوح ، بعيدة عن المراوغة والخداع .
الصدق في العزم والإرادة : وفيه يكون الإنسان صادقا ، إذا أتى بما يريده ويعزم عليه على نحو الجد ، ويبذل فيه أقصى ما لديه من الوسع والطاقة .
وتتضمن الآية الشريفة المباركة مجموعة حقائق أساسية ، منها :
الحقيقة الأولى : أن الخطاب في الآية الشريفة المباركة ، هو من الله عز وجل في يوم القيامة لعباده الذين تحلوا بصفة الصدق في الحياة الدنيا ، ويؤكد الله عز وجل في الخطاب أن الصادقين سوف ينتفعون في يوم القيامة بما كانوا عليه من الصدق في الحياة الدنيا ، حيث يحصلون على الثواب العظيم من الله عز وجل في الآخرة جزاء صدقهم في الحياة الدنيا .
الحقيقة الثانية : أن الله عز وجل يكون راضيا عن الصادقين بما كانوا عليه من الصدق في الحياة الدنيا . والآية تشير إلى رضا الله عز وجل عن نفس الصادقين وليس الرضا عن أعمالهم ، وهناك فرق كبير بين الحالتين : فقد يأتي العدو بعمل مرضي ولكنه يبقى عدوا في الحقيقة والواقع ، وقد يأتي الصديق بعمل غير مرضي ولكنه يبقى صديقا في الحقيقة والواقع ، وهذا يدل على أن للصدق قيمة عالية جدا في حساب التقويم الإلهي الدقيق . وأن الصدق يشمل بتأثيره الإيجابي جميع أعمال الإنسان ، فكل الأعمال الصالحة تنضوي تحت عنوان الصدق ، ويقوم الإنسان بأداء التكليف وتحمل المسؤوليات المنوطة به على أحسن وأكمل وجه .
كما أن الصادقين يكونون بصدقهم مثالا للعبودية لله عز وجل والالتزام بالطاعة والأخلاق الحسنة .و الصادقين يعيشون المعانات الحقيقة في الحياة الدنيا فيما يفرضه الصدق من الطهارة الروحية والنفسية وتحمل المآسي والآلام والخسائر المادية الضخمة انطلاقا من العشق للحق والحقيقة والعدل والخير والفضيلة .
الحقيقة الثالثة : رضا الصادقين عن الله عز وجل ، وهذا يعني رضاهم بقضاء الله عز وجل وقدره وبكل ما ينزل بهم من أمره ، والتسليم له في جميع أحوالهم في الحياة الدنيا ، لعلمهم بحكمته ورحمته وكرمه وقدرته على كل شيء ، فكل بما ينزل بهم أو يصيبهم في الحياة الدنيا فهم يعلمون أنه خير لهم ، وجاء في النصوص الشريفة بما معناه : لو اطلع الإنسان على الغيب لما اختار لنفسه غير ما وقع له ، وهذا ما يحكم به العقل السليم . ثم رضاهم بثوابه لهم في الآخرة على أعمالهم .
الحقيقة الرابعة : أن الصادقين يحصلون بصدقهم وآثاره على حياتهم على السعادة الإنسانية العظيمة في الدنيا والآخرة { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } مع التنبيه إلى أن مجرد الإشباع للحاجيات لا يحقق السعادة للإنسان ما لم يحصل معه الرضا .
والخلاصة : أن الصدق هو أس الفضائل وأصلها ، والسبيل للحصول على الحقيقة وإقامة العدل وتحقيق الأمن والتقدم والازدهار في الحياة ، وهو سفينة النجاة للإنسان ، والسبيل للحصول على أعلى درجات القرب من الله عز وجل والغرف العالية في الجنة .
المرابطة الفاعلة في المطالبة بالحقوق وإقامة العدل ونشر الفضيلة في المجتمع ، كانت ولا تزال سببا لأن يختار الله عز وجل من بيننا شهداء سعداء في سبيله . والشهادة تمثل الأمنية الكبرى التي يتمناها جميع الأولياء وعباد الله الصالحين الذين يسألون ربهم دائما أن يجعلها من نصيبهم ، فهي الباب الذي يعرج من خلاله الأولياء الصالحون إلى ربهم المتعال ، وإلى الدرجات العالية في الجنة ، حيث السعادة والفوز العظيم في الآخرة .
والتوفيق إلى الشهادة الحقيقية ( وهي الشهادة في سبيل الله ) يحتاج إلى الصدق والتهيؤ وإعداد النفس ، فمن مستلزماتها :
أولا : الصبر والثبات وتحمل المشاق والاستعداد للتضحية وقطع النفس عن جميع العلائق الدنيوية والتحرر من قيودها .
ثانيا : الإخلاص في النية لكي تكون الشهادة مقبولة عند الله عز وجل بحيث يريد الإنسان المجاهد أو المرابط في طريق الشهادة بعمله وجه الله سبحانه وتعالى ونصرة دينه الحق وإعلاء كلمته ونصرة أوليائه والمستضعفين في الأرض والمظلومين ونشر العدل والخير والفضيلة دون مراءاة أو طلب للغنيمة أو المنزلة عند الناس .
وهذا كله يحتاج إلى الصدق : فبدون الصدق لا يمكن أن يحصل الإخلاص في النية والصبر والثبات وتقديم التضحيات في سبيل تحقيق الأهداف العظيمة في الحياة .
قال الله تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
منزلة الشهداء : ويحظى الشهداء بمنزلة عظيمة في ثقافتنا الإسلامية ، لما يتحلى به المرابطون على طريق الشهادة من صفات جميلة ، فهم لما يتحلون به من الصدق يعيشون الصفاء الفكري والروحي ، فلا يحجبهم عن الحق والحقيقة حجاب من هوى النفس وأتباع الشيطان أو الحرص على الدنيا ومغانمها ، ولديهم كامل الحرص على الطاعة وأداء التكليف وإنجاز ما يكلفون به من المسؤوليات على أحسن وجه وأكمله . وهم يتحلون بالصبر والإقدام والثبات والإرادة القوية ذات التحصين العالي أمام المغريات والتهديدات والتحديات والصعوبات التي تواجههم في الحياة وفي طريق الجهاد والكفاح ، لأنهم يؤثرون ما عند الله عز وجل على جميع الأغراض الدنيوية ، ولأنهم يتوكلون على الله عز وجل في أمورهم كلها ، ويعتبرونه الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والولد ، ويقاومون نزعات الشيطان الرجيم الذي يريد أن يثبط همتهم ويزين لهم الراحة والدعة ، ويأخذون بأسباب القوة المادية والمعنوية ، ويتخلصون من أسباب الضعف المادية والمعنوية ، ويتطلعون إلى النصر والتمكين للحق والعدل والحرية والتقدم والازدهار في الحياة لتسعد البشرية قاطبة في ظل منهج السماء العظيم . والمرابطة على طريق الشهادة تحتم على المرابطين التآخي والتحاب في الله عز وجل ، لأن التنازع والتباغض يؤدي إلى الضعف والفشل والهزيمة . ومن صفات المرابطون في طريق الشهادة : أنهم لا يحملون حقدا على إنسان ، ولا يؤذون أحدا ، ولا يسلبون حقا من أحد أو يغتصبوه ، ولا ينتهكون مقدسا من المقدسات أو حرمة من الحرمات .
والخلاصة : أن ثقافة الشهادة والمرابطة على طريقها ، تجعل أرواح أصحابها تتطلع إلى ريح الجنة وروحها وريحانها ، وتسمو إلى أعلى عليين في الملكوت الأعلى ، وتدعم المحبة والأخوة وتقوي الرابطة الإيمانية والاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة ، وتجعلهم شخصيات لها شأنها العظيم ، ودورها الكبير ، وتأثيرها البالغ في الحياة ، بالمقارنة مع المستكينين الذين يشغلون أنفسهم بالشهوات ومطالب الجسد والغريزة ، ويتطلعون إلى المناصب والمغانم والألقاب ، فتضعف نفوسهم في ظل الركون إلى الدنيا وشهوات النفس ، وتسّود وتسقط إلى الحضيض الأسفل في سجين ، مما يجعل من المرابطين على طريق الشهادة : أسوة حسنة للآخرين في سموهم الفكري والروحي ، وتضحيتهم بالنفس والنفيس في سبيل الحق والعدل والحرية ومواجهة حكام الجور والدكتاتورية والاستبداد وأئمة الضلال .
قال الله تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } .
قيمة الشهادة في الحياة : الكل يدرك بأن الحق يحتاج إلى قوة تحميه ، وإذا فقدت هذه القوة يضيع الحق والعدل ، وتضيع الحرية والفضيلة ، ويحل محلها الباطل والظلم والرذيلة والدكتاتورية والاستبداد والذل والهوان . وقد ثبت بالعقل والنص والحس والتجربة : بأنه لا يمكن إيقاظ الأمم والشعوب ، وتحقيق العزة والكرامة والتقدم والرخاء لها ، بدون أن تكون لدى أبنائها ثقافة الشهادة ، والرغبة في التضحية والفداء من أجل الحق والعدل والفضيلة والتقدم والازدهار في الحياة .
قال الله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }
وقال الله تعالى : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } .
وقال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها ، فقال قائل : من قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن ، قيل : وما الوهن يا رسول الله؟
قال : حب الدنيا وكراهية الموت ” .
فالمرض العضال الذي يعيق حركة تقدم الأمم والشعوب ويؤدي بها إلى التخلف والذل والمهانة ـ بحسب هذا الحديث الشريف ـ يتمثل في أمرين أساسيين ، وهما :
الأمر الأول : حب الدنيا ومغرياتها ، حيث يكون الناس عبيد الشهوات .
الأمر الثاني : كراهية الموت ، حيث يورث الإنسان الذل والمهانة والصغار .
وهذا يكون نتيجة رؤية منحرفة وثقافة متخلفة في الحياة .
ونتوصل مما سبق إلى أن حمل ثقافة الشهادة والمرابطة على طريقها ، وتكريم الشهداء والحفاوة والإقتداء بهم ، هو السبيل لعزة الأمم والشعوب وكرامتها وتقدمها ورخائها في الحياة ، وأن الفقر في ثقافة الشهادة والتخلي عن المرابطة على طريقها ، يورث الأمم والشعوب الوهن والضعف والتخلف والذل والصغار في الحياة .
كما أن المرابطة على طرق الشهادة يحتاج إلى الصدق ، فبدون الصدق تضيع الحقائق ويضعف الإنسان عن تقديم التضحيات اللازمة لإقامة الحق ونشر العدالة والفضيلة ودفع عجلة التقدم والازدهار في الحياة إلى الأمام .